شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولًا نوعيًا في السياسات الصحية العامة، حيث تطورت التشريعات لحماية المواطنين من طيف واسع من الأمراض السارية وغير السارية، شملت أمراض القلب والسمنة، والأمراض المرتبطة بالملوثات البيئية، وصولًا إلى الأوبئة العالمية مثل كوفيد-19. وقد اعتمدت هذه التحولات على مزيج من التنظيم الذكي، والتدخلات الوقائية، والاعتماد المتزايد على الأدلة العلمية في صياغة السياسات.
إلا أن هذا التقدم اللافت لم ينعكس بالقدر ذاته على سياسات تنظيم التدخين ومنتجات التبغ والنيكوتين، التي لا تزال في كثير من الدول حبيسة نهج تقليدي يقوم على المنع الشامل، مع ركود ملحوظ في الابتكار التشريعي مقارنة بقطاعات صحية أخرى، ما جعل هذا الملف من أكثر القضايا تعقيدًا وحساسية على مستوى السياسات العامة.
فجوة بين العلم والتشريع
في الوقت الذي تبنّت فيه دول مثل السويد والمملكة المتحدة واليابان مقاربات حديثة تقوم على الحد من المخاطر والتكيف مع المستجدات العلمية، لا تزال دول أوروبية أخرى، من بينها إسبانيا وفرنسا، تتعامل مع منتجات النيكوتين بعقلية تنظيمية واحدة لا تميّز بين المنتجات التقليدية والبدائل الأقل خطورة، رغم ما أظهرته الأبحاث من فروق جوهرية في مستويات الضرر.
هذا التباين يعكس صراعًا مستمرًا بين هدفين مشروعين: حماية الشباب من جهة، وتمكين المدخنين البالغين من خيارات أقل ضررًا من جهة أخرى. غير أن التجارب الدولية تشير إلى أن الحل لا يكمن في الشعارات أو السياسات العقابية، بل في تشريعات ذكية قائمة على الأدلة.
قراءة نقدية للتجربة الإسبانية
في هذا السياق، أثار السياسي والاقتصادي الإسباني توماس غوميز، الأمين العام السابق لحزب العمال الاشتراكي، نقاشًا واسعًا عبر مقال نشرته صحيفة LA RAZÓN، انتقد فيه ميل إسبانيا إلى التنظيم الصارم دون تقييم موضوعي للتكلفة والعائد. وأشار غوميز إلى أن السياسات القائمة على رفع الضرائب وتشديد القيود دون تمييز بين المنتجات، تستند في كثير من الأحيان إلى منطلقات أيديولوجية أكثر منها علمية.
وحذّر من أن الإفراط في المنع قد يؤدي إلى نتائج عكسية، مستشهدًا بتجربة ثمانينيات القرن الماضي في شمال غرب إسبانيا، حين أدت القيود الصارمة على تهريب التبغ إلى انتقال العصابات نفسها إلى تجارة الممنوعات الأشد خطورة، بعد أن تساوت العقوبات وارتفعت الأرباح.
أرقام تعكس اختلال السياسات
وتكتسب هذه الرؤية أهمية خاصة في ضوء الأرقام، إذ تُعد صناعة التبغ من أقدم القطاعات الصناعية في إسبانيا، وتُسهم بنحو 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، ارتفع استهلاك التبغ القانوني في 2024 إلى 1.4 مليار وحدة، بزيادة 52 مليون وحدة عن العام السابق، ما أسفر عن خسائر ضريبية تجاوزت 263 مليون يورو.
كما تشير تقارير الاتحاد الأوروبي إلى أن فرنسا شهدت ارتفاع تجارة السجائر غير القانونية إلى 18.7 مليار وحدة خلال 2024، في حين تضاعف التهريب في هولندا بنسبة 14% خلال عام واحد فقط، وهو ما يعزز الطرح القائل بأن سياسات المنع الشامل قد تخلق اقتصادًا رماديًا بدلًا من حل المشكلة.
الحد من المخاطر كخيار استراتيجي
وتؤكد أبحاث منشورة في مجلات علمية مرموقة أن منتجات النيكوتين الخالية من الدخان، مثل السجائر الإلكترونية والتبغ المسخن وأكياس النيكوتين، تقلل المخاطر الصحية بنسبة تتراوح بين 70% و90% مقارنة بالتدخين التقليدي، نظرًا لإقصائها عملية الاحتراق وما ينتج عنها من مواد سامة.
ويرى غوميز أن التعامل مع هذه البدائل بالنهج التنظيمي نفسه المطبق على السجائر التقليدية يفقد التشريعات منطقها العلمي، ويُضعف فعاليتها الصحية والاقتصادية.
نهج مزدوج للمستقبل
وتخلص التجارب الدولية إلى أن صياغة سياسات ناجحة في هذا المجال تتطلب نهجًا مزدوج المسار:
الأول، وقائي صارم يمنع وصول القاصرين إلى منتجات النيكوتين عبر الرقابة والتوعية.
والثاني، تنظيمي علمي يتيح للبالغين المدخنين الوصول إلى بدائل أقل ضررًا ضمن إطار رقابي شفاف يشجع الابتكار، بدل دفع المستهلكين نحو السوق السوداء.
دروس من السويد
وتبرز السويد كنموذج لافت، حيث انخفضت معدلات التدخين إلى أقل من 5%، وهي الأدنى في أوروبا، بعد إتاحة بدائل النيكوتين ضمن لوائح دقيقة. ويؤكد هذا النموذج أن الابتكار المنظم بالأدلة قد ينقذ أرواحًا أكثر مما تحققه السياسات العقابية وحدها.
مفترق طرق تشريعي
اليوم، تقف دول عديدة، من بينها إسبانيا، أمام مفترق طرق: إما الاستمرار في سياسات المنع الشامل التي تُغذي الأسواق غير القانونية، أو تبني مقاربة جديدة قائمة على العلم والابتكار والتقييم الموضوعي للأثر.
ويختتم غوميز طرحه بالتأكيد على أن التعامل مع القضايا الصحية بأسلوب واحد أمر غير منطقي، وأن الحد من المخاطر يمثل استراتيجية ذكية توازن بين حماية الصحة العامة، ودعم الاقتصاد، وتمكين الأفراد من خيارات واعية في بيئة خالية من التحيزات الأيديولوجية.

